فصل: الخبر عن حركة السلطان إلى تلمسان واستيلائه عليها وعلي سائر بلادها

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» **


  الخبر عن ارتجاع الجزيرة

قد تقدم لنا ذكر تغلب الطاغية ألهنشة على الجزيرة سنة ثلاث وأربعين‏.‏ وأنه نازل بعدها جبل الفتح سنة إحدى وخمسين‏.‏ وهلك بالطاعون وهو محاصر له عندما استفحل أمره واشتدت شوكته فكفى الله به شأنه‏.‏ وولي أمر الجلالقة بعده ابنه بطرة وعدا على سائر إخوته‏.‏وفر أخوه القمط ابن حظية أبيه المسماة بلغتهم ألريق ‏"‏ بهمزة ‏"‏ إلى قمص برشلونة فأجاره وأنزله خير نزل‏.‏ ولحق به من الزعماء المركش ابن خالته وغيره من أقماصهم‏.‏وبعث إليه بطرة ملك قشتالة في إسلام أخيه فأبى من إخفار جواره‏.‏ وحدثت بينهما بسبب ذلك الفتنة الطويلة افتتح بطرة فيها كثيراً من معاقل صاحب برشلونة وأوطأ عساكره نواحي أرضه وحاصر بلنسية قاعدة شرق الأندلس مراراً وأرجف عليها بعساكره وملأ البحر إليها بأساطيله إلى أن ثقلت على النصرانية وطأته وساءت فيهم ملكته فانتقضوا عليه ودعوا القمط أخاه فزحف إلى قرطبة‏.‏وثار على بطرة أهل إشبيلية وتيقن صاغية النصارى إليه ففر عن ممالكه ولحق بملك الإفرنج وراء جليقية وفي الجوف عنها وهو صاحب أنكلطرة واسمه ألفنس غالس‏.‏ووفد عليه صريخاً سنة سبع وستين فجمع قومه وخرج في صريخه إلى أن استولى على ممالكه‏.‏ورجع ملك الإفرنج فعاد النصارى إلى شأنهم مع بطرة‏.‏ وغلب القمط على سائر الممالك فتحيز بطرة إلى ثغوره مما يلي بلاد المسلمين‏.‏ ونادى صريخه بابن الأحمر فانتهز فيها الفرصة‏.‏ودخل بعساكره المسلمين فأثخن في أرض النصرانية وخرب معاقلهم ومدنهم مثل أبدة وجيان وغيرهما من أمهات أمصارهم‏.‏ثم رجع إلى غرناطة ولم تزل الفتنة قائمة بين بطرة وأخيه القمط إلى أن غلبه القمط وقتله‏.‏وفي خلال هذه الفتن بقيت ثغورهم مما يلي أرض المسلمين عورة‏.‏وتشوف المسلمون إلى ارتجاع الجزيرة التي قرب عهدهم بانتظامها في ملكة المسلمين‏.‏وكان صاحب المغرب في شغل عن ذلك بما كان فيه من انتقاض أبي الفضل ابن أخيه وعامر بن محمد فراسل صاحب الأندلس في أن يزحف إليها بعساكره على أن عليه عطاءهم وإمداده بالمال والأساطيل وعلى أن يكون مثوبة جهادها خالصة له فأجابه إلى ذلك وبعث إليه أحمال المال‏.‏وأوعز إلى أساطيله بسبتة فعمرت وأقلعت إلى مرسى الجزيرة لحصارها‏.‏وزحف ابن الأحمر بعساكر المسلمين على أثرها بعد أن قسم فيهم العطاء وأزاح العلل واستعد الآلة للحصار فنازلها أياما قلائل‏.‏ثم أيقن النصارى بالهلكة لبعدهم عن الصريخ ويأسهم من مدد ملوكهم فألقوا باليد وسألوا النزول على حكم السلم فأجابهما السلطان عليه‏.‏ونزلوا عن البلد وأقيمت فيها شعائر الإسلام ومراسمه ومحيت منها كلمة الكفر وطواغيته‏.‏وكتب الله أجرها لمن أخلص في معاملته وذلك سنة سبعين‏.‏ وولى ابن الأحمر عليها من قبله‏.‏ولم تزل لنظره إلى أن تمحض النظر عن هدمها خشية استيلاء النصرانية عليها فهدمت أعوام ثمانين وأصبحت خاوية كأن لم تغن بالأمس‏.‏ والبقاء لله وحده‏.‏

  الخبر عن حركة السلطان إلى تلمسان واستيلائه عليها وعلي سائر بلادها

وفرار أبي حمو عنها كان عرب المعقل موطنين بصحراء المغرب من لدن السوس ودرعة تافليلالت وملوية وصا‏.‏ وكان بنو منصور منهم أولاد حسين والأحلاف مختصين بطاعة بني مرين وفي وطنهم‏.‏ كانوا مغلبين للدولة وتحت قهر من سلطانها‏.‏ولما ارتجع بنو عبد الواد ملكهم بتلمسان على يد أبي حمو وكان الاختلاف بالمغرب عاث هؤلاء المعقل وأكثروا في الوطن الفساد‏.‏ولما استقلت الدولة من عثرها تحيزوا إلى بني عبد الواد وأقطعوهم في أوطانهم‏.‏ واستقروا هنالك من لدن نزوع عبد الله بن مسلم العامل كان بدرعة إلى أبي حمو ووزارته له‏.‏وفسد ما بين سلطان المغرب وبين أبي حمو من جراء ذلك‏.‏ونهض أبو حمو سنة ست وستين إلى المغرب وعاث في نواحي دبدو ثغر المغرب فشبت لذلك نار العداوة بينه وبين صاحب الثغر محمد بن زكدان فكان داعية لعداء صاحب المغرب على الأيام‏.‏ولما استبد السلطان عبد العزيز وهلك عبد الله بن مسلم صاحبهم وترددت الرسل بين أبي حمو وبين السلطان عبد العزيز كان فيما اشترط عليه التجافي عن قبول المعقل عرب وطنه لما فيه من الاستكثار بهم عليه‏.‏وأبى عليهم أبو حمو منها لاستظهاره بهم على زغبة من أهل وطنه وغيرهم‏.‏ وكثر التلاحي في ذلك وأحفظ السلطان وهم بالنهوض إليه سنة سبعين‏.‏ وأقصر لما أخذ بحجرته من خلاف عامر‏.‏وصاحب الثغر محمد بن زكدان أثناء ذلك يحرضه على الحركة إلى أبي حمو ويرغبه في ملك تلمسان‏.‏ ولما قضى السلطان من حركة مراكش وفرغ من شأن عامر ورجع إلى فاس وافاه بها أبو بكر بن عريف أمير سويد في قومه من بني مالك بحللهم وناجعتهم صريخاً على أبي حمو لما نال منهم‏.‏وتقبض على أخيهم محمد ورؤساء بني مالك جزاء بما يعرف لهم ولسلفهم من ولاية صاحب المغرب‏.‏ ووفد عليه معهم رسل أهل الجزائر ببيعتهم يستحثون السلطان لاستنقاذهم من لهواته‏.‏ووامر السلطان في ذلك وليه وفزمار بن عريد ومحمد بن زكدان صاحب دبدو فزعموا له بالغناء في ذلك‏.‏واعتزم على النهوض إلى تلمسان وبعث الحاشرين إلى مراكش للاحتشاد‏.‏ وتوافى الناس ببابه على طبقاتهم أيام منى من سنة إحدى وسبعين‏.‏وأفاض العطاء وأزاح العلل ولما قضى نسكه في الأضحى اعترض العساكر وارتحل إلى تلمسان واحتل بتازى‏.‏وبلغ خبر نهوضه إلى أبي حمو فجمع من إليه من زناتة الشرق وسني عامر من عرب زغبة‏.‏وتوافت جموعه بساحة تلمسان وأضرب هنالك معسكره واستعرض جنوده واعتزم على الزحف إلى لقاء بني مرين ثقة بمكان المعقل‏.‏وتحيز من كان معه من عرب المعقل الأحلاف وعبيد الله إلى السلطان عبد العزيز بمداخلة وليهم ونزمار‏.‏واجتمعوا إليه وسرح معهم صنائعه فارتحلوا بين يديه وسلكوا طريق الصحراء‏.‏وبلغ خبر تحيزهم وإقبالهم إلى أبي حمو فأجفل هو وجنوده وأشياعه من بني عامر وسلكوا على البطحاء‏.‏ثم ارتحلوا عنها وعاجوا على منداس وخرجوا إلى بلاد الديالم‏.‏ ثم لحقوا بوطن رياح ونزلوا على أولاد سباع بن علي بن يحيى‏.‏وارتحل السلطان عبد العزيز من تازى وقدم بين يديه وزيره أبا بكر بن غازي فدخل تلمسان وملكها‏.‏ورحل السلطان على أثره واحتل بتلمسان يوم عاشوراء من سنة اثنتين وسبعين فدخلها في يوم مشهود واستولى عليها وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي على العسكر من بني مرين والجنود والعرب من المعقل وسويد وسرحه في أتباعهم وجعل شوراه إلى وليه ونزمار وفوض إليه في ذلك‏.‏وارتحلوا من تلمسان آخر المحرم وكنت وافداً على أبي حمو فلما أجفل عن تلمسان ودعته وانصرفت إلى هنين للإجازة إلى الأندلس‏.‏ووشى بعض المفسدين عند السلطان بأني احتملت مالاً للأندلس فبعث جريدة من عسكره للقبض علي‏.‏ ووافوه بوادي الزيتون قبل مدخله إلى تلمسان فأحضرني وسألني‏.‏وتبين كذب الواشين فأطلقني وخلع علي وحملني ولما ارتحل الوزير في أتباع أبي حمو استدعاني وأمرني بالنهوض إلى رياح والقيام فيهم بطاعته وصرفهم عن طاعة أبي حمو وصريخه فنهضت لذلك ولحقت بالوزير بالبطحاء وارتحلت معه إلى وادي وراك من بلاد العطاف فودعته وذهبت لوجهي وجمعت رياحاً على طاعة السلطان ونكبت بهم عن صريخ أبي حمو فنكبوا عنه‏.‏وخرج أبو زيان من محل بؤرته بحصين فلحق بأولاد محمد بن علي بن سباع من الدواودة‏.‏وارتحل أبو حمو من المسيلة فنزل بالدوسن وتلوم بها‏.‏وأوفدت من الدواودة على الوزير ونزمار فكانوا أدلاءهم في النهوض إليه‏.‏ووافوه بمكانه من الدوسن في معسكره من في زناتة وحلل بني عامر والوزير في التعبية‏.‏وأمم زناتة والعرب من المعقل وزغبة ورياح محدقة به فأجهضوه عن ماله ومعسكره فانتهب بأسره‏.‏ واكتسحت أموال العرب الذين معه ونجا بدمه إلى مصاب‏.‏ وتلاحق به ولده وقومه متفرقين على كل مفازة وتلوم الوزير بالدوسن أياماً‏.‏ ووافاه هنالك إتحاف بن مزني وانقلب إلى المغرب‏.‏ومر على قصور بني عامر بالصحراء فاستباحها وشردهم عنها إلى قاصية القفر ومفازة العطش‏.‏ ولحق بتلمسان في ربيع الثاني‏.‏ووفدت أنا بالدواودة على السلطان ورئيسهم أبو الدينار بن علي بن أحمد فبر السلطان مقدمه ورعى له سوابقه عند أبيه وخلع عليه وحمله‏.‏ وخلع على الوفد كافة وانصرفوا إلى مواطنهم‏.‏وبعث السلطان عماله في الأمصار وعقد لصنائعه على النواحي وجهز الكتائب مع وزيره عمر بن مسعود بن منديل بن حمامة لحصار حمزة بن علي بن راشد من آل ثابت بن منديل كان ربي في حجر الدولة ونشأ في جو نعمتها وسخط حاله لديهم فنزع إلى وطن سلفه من بلاد معراوة‏.‏ ونزل بجبل بني بو سعيد فأجاروه وبايعوه على الموت دونه‏.‏ وسرح السلطان وزيره إلى الأخذ بمخنقهم فنزل عليهم وقاتلهم‏.‏وامتنعوا في رأس شاهق لهم فأوطن الوزير بالخميس من وادي شلف وأحجرهم بمعتصمهم‏.‏وتوافت لديه الأمداد من العساكر من تلمسان فجمرها كتائب وبوأهم المقاعد للحصار وأقام هنالك‏.‏ واستولى السلطان على سائر الوطن من الأمصار والأعمال وعقد عليها‏.‏ واستوسق له ملك المغرب الأوسط كما كان لسلفه‏.‏ والملك بيد الله يؤتيه من يشاء من عباده‏.‏

  الخبر عن اضطراب المغرب الأوسط ورجوع أبي زيان إلى تيطرى

وأجلاب العرب بأبي حمو على تلمسان إلي أن غلبهم السلطان جميعاً على الأمر واستوسق له الملك لما خلص أبو حمو من واقعة الدوسن هو وأحياء بني عامر وأشياعه لحقوا بالصحراء وأبعدوا فيها عن قصورهم قبلة جبل راشد‏.‏ ورجع الوزير ونزمار بن عريف بأحياء العرب كافة من زغبة والمعقل‏.‏وكان السلطان لما احتل بتلمسان طلب العرب منه إطلاق أيديهم على ما أقطعهم أبو حمو إياه من الوطن على الزبون والاعتزاز عليه فاستنكف من ذلك لعظم سلطانه واستبداد ملكه فسخطوا أحواله ورجوا أن يكون لأبي حمو ظهور ينالون به ما أملوه‏.‏ فلما انهزم وفلت عساكره وظهر السلطان ظهوراً لا كفاء له فيئسوا‏.‏وأزمع رحو بن منصور بن يعقوب أمير الخوارج من عبيد الله إحدى بطون المعقل الخروج على السلطان‏.‏ ولما خرج العرب إلى مشاتيهم لحق بأبي حمو وأحياء بني عامر وكاثرهم وقادهم إلى العيث في الأوطان‏.‏وأجلبوا على ممالك السلطان ونازلوا وجدة في رجب من سنة اثنتين وسبعين‏.‏ وصمد نحوهم العساكر من تلمسان فأجفلوا وعادوا إلى البطحاء واكتسحوا أوطانهم‏.‏ونهض إليهم الوزير في العساكر ففروا أمامه واتبع آثارهم إلى أن أصحروا‏.‏ واستنسر خلال ذلك بغاث حمزة بن علي بن راشد فبيت معسكر الوزير بمكانه من حصاره بشلف ففض جموعه ولحق مفلولاً بالبطحاء‏.‏ وبلغ الخبرإلى حصين وكانوا راهبين من السلطان لما اشتهر عنهم من الخلاف على الدول والقيام بأمر الخوارج فجأجئوا بأبي زيان الثائر كان عندهم من مكانه بأحياء أولاد يحيى بن علي بن سباع من الدواودة فلحق بهم وأجلبوا على ضواحي المدية ونازلوا عسكر السلطان بها‏.‏ واضطرم المغرب الأوسط ناراً واتصل ذلك مدة‏.‏ولما كانت سنة ثلاث وسبعين واستمال السلطان رخو بن منصور عن أبي حمو وبذل له مالاً وأقطعه ما أحب من الضواحي وفعل ذلك بسائرهم وملأ صدورهم ترغيباً‏.‏واعتزم على تجهيز العساكر معهم لحسم أدواء الفساد وإخراج الثوار من النواحي‏.‏واتهم وزيره عمر بن مسعود بالمداهنة في أمر المغراوي فسرح من ذويه من تقبض عليه وأشخصه إلى حضرته مقيداً واعتقله بفاس‏.‏وجهز عساكره واعترض جنوده وعقد لوزيره أبي بكر بن غازي على حراب الثوار والخوارج فنهض من تلمسان في رجب من سنة ثلاث وسبعين‏.‏واعتمد حمزة بن علي بن راشد في معتصمه بجبل بني بوسعيد وألح عليهم بالقتال فعضتهم الحرب بنابها وداخلهم الرعب وأوفدوا مشيختهم على الوزير بالطاعة‏.‏ونبذ العهد إلى حمزة فعقد لهم ما ابتغوه‏.‏ ولحق حمزة بأبي زيان بمكانه من حصين‏.‏ثم أثنى عزمه عن ذلك ورجع إلى ضواحي شلف‏.‏ وبيته بعض الحامية بتيمروغت فثبتوا في مراكزهم وانفض جمعه وتقبض عليه وسيق إلى الوزير فاعتقله‏.‏وبعث إلى السلطان في شأنه فأمر بقتله فاحتز رأسه ورؤوس أشياعه وبعث بهم إلى السلطان وعلق أشلاءهم بأسوار مليانة‏.‏ ثم زحف إلى حصين فأحجرهم بمعقلهم بتيطرى‏.‏ واجتمعت إليه أحياء زغبة كافة‏.‏فأحاط بهم من كل جانب وطاولهم الحصار وغاداهم الحرب وخاطبني السلطان بمكاني من الزاب وأوعز إلي بنفير رياح كافة إلى معسكر الوزير فاستنفرتهم بأحيائهم وناجعتهم‏.‏ونازلنا الجليل من جانب الصحراء مما يلي ضواحي رياح فأصابهم الجهد وداخلهم الرعب وانفضوا من المعقل وانذعروا في الجهات في المحرم فاتح أربع وسبعين ولحق أبو زيان بواركلي واستولى الوزير على المعقل وانتهب ما فيه‏.‏واقتضى رهن حصين على الطاعة وقرر عليهم الوضائع والمغارم فأعطوها عن يد‏.‏وكان أبو حمو في خلال ذلك قد أجلب على تلمسان ينتهز فرصة في انتباذ العساكر عن السلطان‏.‏وكان وليه خالد بن عامر أمير بني عامر من زغبة مريد الطاعة لما اتهم أبو حمو به بولاية رديفه عبد الله بن عسكر بن معرف دونه فأسخطه ذلك وداخل السلطان عبد العزيز في الأنحراف إليه عن أبي حمو على مال إليه فنزع عنه‏.‏وجهز له السلطان عسكراً لحرب أبي حمو وأشياعه في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين من بني عامر وأولاد يغمور من المعقل وعقد عليهم لمحمد بن عثمان من قرابة أبي بكر بن غازي‏.‏وتعرضوا للقائهم فانفض جمعهم ومنحوا أكتافهم‏.‏وأحيط بمعسكر أبي حمو وحلل العرب فاكتسح ما واستولى بنو مرين على أمواله وحرمه وولده فاستاقوهم إلى السلطان فأشخصهم إلى فاس فأنزلهم بقصوره‏.‏ وتقبض على مولاه عطية بن موسى صاحب شلف فامتن عليه وألحقه جملته‏.‏ونجا أبو حمو وألقى بنفسه إلى عبد الله بن صغير مستميتاً فامتن عليه وبعث معه الأدلاء إلى تيكورارين من بلاد القبلة فنزلها وكان ذلك بين يدي فتح تيطرى بليال‏.‏واستوت قدم السلطان في ملكه واستولى على المغرب الأوسط ودفع الثوار والخوارج عنه‏.‏واستمال كافة العرب إلى طاعته فأتوها راغبين وراهبين‏.‏ ووفد عليه الوزير أبو بكر‏.‏

  الخبر عن قدوم الوزير ابن الخطيب

علم السلطان بتلمسان نازعاً إليه من سلطانه الأحمر صاحب الأندلس أصل هذا الرجل من لوشة على مرحلة من غرناطة من البسيط الذي في ساحتها المسمى بالمرج على وادي شنجيل ويقال شنيل المختوق في ذلك البسيط من الجنوب إلى الشمال كان له بها سلف معدود في وزرائها‏.‏وانتقل أبوه عبد الله إلى غرناطة واستخدم لملوك بني الأحمر واستعمل على مخازن الطعام‏.‏ونشأ ابنه محمد هذا بغرناطة وتأدب على مشيختها واختص بصحبة الحكيم المشهور يحيى بن هذيل وأخذ عنه العلوم الفلسفية وبرز في الطب وانتحل الأدب وأخذ عن أشياخه وامتلأ من خوض اللسان نظمه ونثره مع انتقاء الجيد منه‏.‏ ونبغ في الشعر والترسل بحيث لا يجارى فيهما‏.‏وامتدح السلطان أبا الحجاج من ملوك بني الأحمر لعصره وملأ الدولة بمدائحه وانتشرت في الآفاق فرقاه السلطان إلى خدمته وأثبته في ديوان الكتاب ببابه مرؤوساً بأبي الحسن بن الجياب شيخ العدوتين في النظم والنثر وسائر العلوم الأدبية‏.‏وكاتب السلطان بغرناطة من لدن أيام محمد المخلوع من سلفه عندما قتل وزيره محمد بن الحكيم المستبد عليه كما مر في أخبارهم‏.‏فاستبد ابن الجياب برياسة الكتاب من يومئذ إلى أن هلك في الطاعون الجارف سنة تسع وأربعين وسبعماية فولى السلطان أبو الحجاج حينئذ محمد بن الخطيب هذا رياسة الكتاب ببابه مثناة بالوزارة‏.‏ ولقبه بها فاستقل بذلك‏.‏ وصدرت عنه غرائب من الترسل في مكاتبات جيرانهم من ملوك العدوة‏.‏ ثم داخله السلطان في تولية العمال على يده بالمشارطات فجمع له بها أموالاً‏.‏ وبلغ في المخالصة إلى حيث لم يبلغ بأحد ممن قبله‏.‏ وسفر عنه إلى السلطان أبي عنان ملك بني مرين بالعدوة مقرباً بأبيه السلطان أبي الحسن فجلى في أغراض سفارته‏.‏ثم هلك السلطان أبو الحجاج سنة خمس وخمسين عدا عليه بعض الزعانف يوم الفطر بالمسجد في سجوده للصلاة وطعنه فأشواه وفاض لوقته‏.‏وتعاورت سيوف الموالي المعلوجي هذا القاتل فمزقوه أشلاء‏.‏ وبويع ابنه محمد لوقته‏.‏وأقام بأمره مولاهم رضوان الراسخ القدم في قيادة عساكرهم وكفالة الأصاغر من ملوكهم واستبد بالدولة‏.‏ وأفرد ابن الخطيب بوزارته كما كان لأبيه واتخذ لكتابته غيره‏.‏وجعل ابن الخطيب رديفاً له في أمره ومشاركاً في استبداده معنى فجرت الدولة على أحسن حال وأقوم طريقة‏.‏ثم بعثوا الوزير ابن الخطب سفيراً إلى السلطان أبي عنان مستمداً له على عدوهم الطاغية على عادتهم مع سلفه‏.‏فلما قدم على السلطان ومثل بين يديه تقدم الوفد الذين معه من وزراء الأندلس وفقهائها واستأذنه في إنشاد شيء من الشعر خليفة الله ساعد القدر علاك ما لاح في الدجى قمر ودافعت عنك كف قدرته ما ليس يستطيع دفعه البشر وجهك في النائبات بدر دجى لنا وفي المحل كفك المطر والناس طراً بأرض أندلس لولاك ما أوطنوا ولا عمروا وجملة الأمر أنه وطن في غير علياك ما له وطر ومن به مذ وصلت حبلهم ما جحدوا نعمة ولا كفروا وقد أهمتهم نفوسهم فوجهوني إليك وانتظروا فاهتز السلطان لهذه الأبيات وأذن له في الجلوس‏.‏ وقال له قبل أن يجلس ما ترجع إليهم إلا بجميع طلباتهم‏.‏ ثم أثقل كاهلهم بإحسانه وردهم بجميع ما طلبوه‏.‏وقال لي شيخنا القاضي أبو القاسم الشريف وكان معه في ذلك الوفد لم يسمع بسفي قضى سفارته قبل أن يسلم على السلطان إلا هذا‏.‏ ومكثت دولتهم هذه بالأندلس خمس سنين‏.‏ثم ثار بهم محمد الرئيس ابن عم السلطان شركه في جده الرئيس أبي سعيد‏.‏ وتحين خروج السلطان إلى متنزهه خارج الحمراء‏.‏ وتسور دار الملك المعروفة بالحمراء وكبس رضواناً في بيته فقتله‏.‏ ونصب للملك إسماعيل ابن السلطان أبي الحجاج بما كان صهره على شقيقته‏.‏ وكان معتقلاً بالحمراء فأخرجه وبايعه وقام بأمره مستبداً عليه‏.‏ وأحس السلطان محمد بقرع الطبول وهو بالبستان فركب ناجياً إلى وادي آش وضبطها‏.‏وبعث بالخبر إلى السلطان أبي سالم إثر ما استولى على ملك آبائه بالمغرب‏.‏وقد كان مثواه أيام أخيه أبي عنان عندهم بالأندلس‏.‏ واعتقل الرئيس القائم بالدولة هذا الوزير ابن الخطيب وضيق عليه في محبسه‏.‏ وكانت بينه وبين الخطيب ابن مرزوق مودة استحلمت أيام مقامه بالأندلس كما مر‏.‏وكان غالباً على هوى السلطان أبي سالم فزين له استدعاء هذا السلطان المخلوع من وادي آش يعده زبوناً على أهل الأندلس ويكف به عادية القرابة المرشحين هنالك متى طمحوا إلى ملك المغرب فقبل ذلك منه‏.‏وخاطب أهل الأندلس في تسهيل طريقه من وادي آش إليه‏.‏ وبعث من أهل مجلسه الشريف أبا القاسم التلمساني وحمله مع ذلك الشفاعة في ابن الخطيب‏.‏وحل معتقله فانطلق وصحب الشريف أبا القاسم إلى وادي آش وسار في ركاب سلطانه‏.‏وقدموا على السلطان أبي سالم فاهتز لقدوم ابن الأحمر وركب في موكب لتلقيه وأجلسه إزاء كرسيه‏.‏وأنشد ابن الخطيب قصيدته كما مر يستصرخ السلطان لنصره فوعده وكان يوماً مشهوداً وقد مر ذكره‏.‏ ثم أكرم مثواه وأرغد نزله ووفر أرزاق القادمين في ركابه وانتظر به وأرغد عيش ابن الخطيب في الجراية والأقطاع‏.‏ثم استأنس واستأذن السلطان في التحول بجهات مراكش والوقوف على آثار الملك بها فأذن له وكتب إلى العمال بإتحافه فتبارزوا في ذلك وحصر منه على حظ‏.‏وعندما مر بسلا في قفوله من سفره‏.‏ دخل مقبرة الملوك بشالة ووقف على قبر السلطان أبي الحسن وأنشد قصيدة على روي الراء يرثيه ويستجير به في استرجاع ضياعه بقرطبة ومطلعها إن بان منزله وشطت داره قامت مقام عيانه أخباره قسم زمانك غيرة أو عبرة هذا ثراه وهذه آثاره فكتب السلطان أبو سالم في ذلك إلى أهل الأندلس بالشفاعة فشفعوه‏.‏واستقر هو بسلا منتبذاً عن سلطانه طول مقامته بالعدوة‏.‏ ثم عاد السلطان محمد المخلوع إلى مكانه بالأندلس سنة ثلاث وستين كما مر في أخباره‏.‏وبعث عن مخلفه بفاس من الأهل والولد القائم بالدولة يومئذ عمر بن عبد الله بن علي فاستقدم ابن الخطيب من سلا وبعثهم لنظره‏.‏وسر السلطان بقدومه ورده إلى منزلته كما كان مع رضوان كافله‏.‏ وكان عثمان بن يحيى بن عمر شيخ الغزاة وابن شيوخهم قد لحق بالطاغية في ركاب أبيه عندما أحس بالشر من الرئيس صاحب غرناطة‏.‏وأجاز يحيى من هنالك إلى العدوة وأقام عثمان بدار الحرب فصحب السلطان في مثوى اغترابه هنالك وتقلب في هذا مذاهب خدمته‏.‏وانحرفوا عن الطاغية عندما يئسوا من الفتح على يديه فتحولوا عنه إلى ثغور بلاده‏.‏وخاطبوا عمر بن عبد الله في أن يمكنهم من بعض الثغور الغربية التي لطاعتهم بالأندلس يرتقبون منها الفتح‏.‏وخاطبني السلطان المخلوع في ذلك وكانت بيني وبين عمر بن عبد الله أزفة مرعية ومخالصة متأكدة فوفيت للسلطان بذلك من عمر بن عبد الله‏.‏وحملته على أن يرد عليه مدينة رندة إذ هي تراث سلفه فقبل إشارتي في ذلك‏.‏ وتسوغها السلطان المخلوع ونزل بها وعثمان بن يحيى في جملته وهو المقدم في بطانته‏.‏ ثم غزوا منها مالقة فكانت ركاباً للفتح‏.‏وملكها السلطان واستولى بعده على دار ملكه بغرناطة وعثمان بن يحيى متقدم القدم في الدولة غريق في المخالصة وله على السلطان دالة واستبداد على هواه‏.‏فلما وصل ابن الخطيب بأهل السلطان وولده وأعاده السلطان إلى مكانه في الدولة من علو يده وقبول إشارته فأدركته الغيرة من عثمان ونكر على السلطان الاستكفاء به والتخوف من هؤلاء الأعياص على ملكه فحذره السلطان وأخذ في التدبير عليه حتى نكبه وأباه وإخوته في رمضان سنة أربع وستين وأودعهم المطبق‏.‏ثم غربهم بعد ذلك وخلا لابن الخطيب الجو وغلب على هوى السلطان ودفع إليه تدبير الدولة وخلط بينه بندمانه وأهل خلوته‏.‏وانفرد ابن الخطيب بالحل والعقد وانصرفت إليه الوجوه وعلقت به الآمال وغشي بابه الخاصة والكافة وغصت به بطانة السلطان وحاشيته فتفننوا في السعايات فيه وقد صم السلطان عن قبولها‏.‏ ونمي الخبر بذلك إلى ابن الخطيب فشمر عن ساعده في التقويض عنهم‏.‏واستخدم للسلطان عبد العزيز ابن السلطان أبي الحسن ملك العدوة يومئذ قي القبض على ابن عمه عبد الرحمن بن أبي يفلوسن ابن السلطان أبي علي كانوا قد نصبوه شيخاً على الغزاة بالأندلس لما أجاز من العدوة بعد ما جاس خلالها لطلب الملك وأضرم بها نار الفتنة في كل ناحية وأحسن دفاعه الوزير عمر بن عبد الله القائم حينئذ بدولة بني مرين فاضطر إلى الإجازة إلى الأندلس فأجاز هو ووزيره مسعود بن ماسي ونزلوا على السلطان المخلوع أعوام سبعة وستين فأكرم نزلهم‏.‏وتوفي علي بن بدر الدين شيخ الغزاة فقدم عبد الرحمن مكانه‏.‏وكان السلطان عبد العزيز قد استبد بملكه بعد مقتل الوزير عمر بن عبد الله فغص بما فعله السلطان المخلوع من ذلك‏.‏ وتوقع انتقاض أمره منهم‏.‏ ووقف على مخاطبات من عبد الرحمن يسربها في بني مرين فجزع لذلك‏.‏وداخله ابن الخطيب في اعتقال ابن أبي يفلوسن وابن ماساي وإراحة نفسه من شغبهم على أن يكون له المكان من دولته متى نزع إليه فأجابه إلى ذلك وكتب له العهد بخطه على يد سفيره إلى أندلس وكاتبه أبي يحيى بن أبي مدين‏.‏وأغرى ابن الخطيب سلطانه بالقبض على ابن أبي يفلوسن وابن ماساي فتقبض عليهما واعتقلهما‏.‏وفي خلال ذلك استحكمت نفرة ابن الخطيب لما بلغه عن البطانة من القدح فيه والسعاية‏.‏وربما تخيل له أن السلطان مال إلى قبولها وأنهم قد أحفظوه عليه فأجمع التحويلع عن الأندلس إلى المغرب‏.‏واستأذن السلطان في تفقد الثغور الغربية‏.‏وسار إليها في لمة من فرسانه ومعه ابنه علي الذي كان خالصة للسلطان وذهب لطبنة‏.‏فلما حاذى جبل الفتح فرضة المجاز إلى العدوة مال إليه وسرح أذنه بين يديه فخرج قائد الجبل لتلقيه‏.‏وقد كان السلطان عبد العزيز أوعز إليه بذلك وجهز له الأسطول من حينه فأجاز إلى سبتة‏.‏وتلقاه ولاتها بأنواع التكرمة وامتثال المراسيم‏.‏ثم سلك لقصد السلطان فقدم عليه سنة ثلاث وسبعين بمقامته من تلمسان فاهتزت له الدولة‏.‏وأركب السلطان خاصته لتلفيه وأحله من مجلسه محل الأمن والغبطة ومن دولته بمكان البنوة والعزة‏.‏وأخرج لوقته كاتبه أبا يحيى بن مدين سفيراً إلى صاحب الأندلس في طلب أهله وولده فجاء بهم على أكمل حالات الأمن والتكرمة‏.‏ثم لغط المنافسون له في شأنه وأغروا السلطان بتتبع عثراته وأبدى ما كان كامناً في نفسه من سقطات دالته وإحصاء معائبه‏.‏وشاع على ألسنة أعدائه كلمات منسوبة إلى الزندقة أحصوها عليه ونسبوها إليه‏.‏ورفعت إلى قاضي الحضرة أبي الحسن ابن أبي الحسن فاستردها وسجل عليه بالزندقة‏.‏وراجع صاحب الأندلس رأيه فيه‏.‏وبعث القاضي ابن الحسن إلى السلطان عبد العزيز في الانتقام منه بتلك السجلات وإمضاء حكم الله فيه فصمم عن ذلك وأنف لذمته أن تخفر ولجواره أن يرد وقال لهم هلا انتقمتم منه وهو عندكم وأنتم عالمون بما كان عليه وأما أنا فلا يخلص إليه بذلك أحد ما كان في جواري‏.‏ثم وفر الجراية والإقطاع له ولبنيه ومن جاء من أهل الأندلس في جملته‏.‏فلما هلك السلطان عبد العزيز سنة أربع وسبعين ورجع بنو مرين إلى المغرب وتركوا تلمسان سار هو في ركاب الوزير أبي بكر بن غازي القائم بالدولة فنزل بفاس واستكثر من شراء الضياع وتأنق في بناء المساكن وأغراس الجنات‏.‏ وحفظ عليه القائم بالدولة الرسوم التي رسمها له السلطان المتوفى‏.‏ واتصلت حاله على ذلك إلى أن كان ما نذكره إن شاء الله تعالى‏.‏